الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادرًا على الإحياء في المرة الأولى. وعلى كونه قادرًا على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة. عمم الدليل فقال: {وللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السموات أو من الأرض. وإذا ثبت كونه تعالى قادرًا على كل الممكنات. وثبت أن حصو ل الحياة في هذه الذات ممكن. إذ لولم يكن ممكنًا لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادرًا على الإحياء في المرة الثانية.ولما بيّن تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين. ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها: قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} وفيه أبحاث:البحث الأول: عامل النصب في يوم تقوم يخسر. ويومئذ بدل من يوم تقوم.البحث الثاني: قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال. والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح. والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وثانيها: قوله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} قال الليث الجثوالجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم. قال الزجاج ومثله جذا يجذو. قال صاحب (الكشاف): وقرئ {جاذية} قال أهل اللغة والجذوأشد استيفازًا من الجثو. لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه. وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.ثم قال تعالى: {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها} على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة. وقوله: {إلى كتابها} أي إلى صحائف أعمالها. فاكتفى باسم الجنس كقوله تعالى: {ووضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك {فَأَمَّا الذين ءَآمنوا}.ثم قال تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} فإن قيل الجثوعلى الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة. قلنا إن المحق الامن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقًا.ثم قال تعالى: {اليوم تُجْزَوْنَ} والتقدير يقال لهم اليوم تجزون. فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى؟ قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه {يَنطِقُ عَلَيْكُم} أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} الملائكة {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نستكتبهم أعمالكم.ثم بيّن أحوال المطيعين فقال: {فَأَمَّا الذين ءَآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ في رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هو الفوز المبين} وفيه مسائل:المسألة الأولى:ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات. فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايرًا للإيمان زائدًا عليه.المسألة الثانية:قالت المعتزلة علق الدخو ل في رحمة الله على كونه اتيًا بالإيمان والأعمال الصالحة. والمعلق على مجموع أمرين يكون عدمًا عند عدم أحدهما. فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا: أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.المسألة الثالثة:سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة. فوجب أن لا يكون الثواب واجبًا على الله تعالى.ثم قال تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} وفيه مسائل:المسألة الأولى:ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قسمًا ثالثًا وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة إثبات المنزلتين باطل.المسألة الثانية:أنه تعالى علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبو لها. وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع. وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع. خلافًا لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل.المسألة الثالثة:جواب {أَمَّا} محذوف والتقدير: وأما الذين كفروا فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم عن قبو ل الحق وكنتم قومًا مجرمين فإن قالوا كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرمًا في معرض الطعن فيه والذم له؟ قلنا معناه أنهم مع كونهم كفارًا ما كانوا عدو لا في أديان أنفسهم. بل كانوا فساقًا في ذلك الدين. والله أعلم.{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} فيه مسائل:المسألة الأولى:قرئ {والساعة} رفعًا ونصبًا قال الزجاج من نصب عطف على الوعد ومن رفع فعلى معنى وقيل: الساعة لا ريب فيها قال الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب. إذا جاء بعد خبر إن لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الكلام الأول بتمامه.المسألة الثانية:حكى الله تعالى عن الكفار أنهم إذا قيل إن وعد الله بالثواب والعقاب حق وإن الساعة اتية لا ريب فيها قالوا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين.أقول الأغلب على الظن أن القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعًا بنفي البعث والقيامة. وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله: {وَقالواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الجاثية: 24] ومنهم من كان شاكًا متحيرًا فيه. لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته صاروا شاكين فيه وهم الذين أرادهم الله بهذه الآية. والذي يدل عليه أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين. ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول. اهـ.
ثم قيل: هو خاص بالكفار؛ قاله يحيى بن سلام.وقيل: إنه عام للمؤمن والكافر انتظارًا للحساب.وقد روى سفيان بن عيينة عن عمروعن عبد الله بن باباه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كأني أراكم بالكَوْم جاثين دون جهنم» ذكره المأو ردي.وقال سلمان: إن في يوم القيامة لساعةً هي عشر سنين يخِرّ الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي «لا أسألك اليوم إلا نفسي».{كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا} قال يحيى بن سلام: إلى حسابها.وقيل: إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر؛ قاله مقاتل.وهو معنى قول مجاهد.وقيل: {كِتابِهَا} ما كتبت الملائكة عليها.وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه.وقيل: الكتاب هاهنا اللوح المحفوظ.وقرأ يعقوب الحضرميّ {كُلَّ أُمَّةٍ} بالنصب على البدل من {كُلّ} الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى؛ إذ ليس في جُثُوّها شيء من حال شرح الجثوكما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها.وقيل: انتصب بإعمال {تَرَى} مضمرًا.والرفع على الابتداء.{اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير أوشر.قوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا} قيل من قول الله لهم.وقيل من قول الملائكة.{يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي يشهد.وهواستعارة؛ يقال: نطق الكتاب بكذا أي بَيّن.وقيل: إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا؛ فكأنه ينطق عليهم؛ دليله قوله: {وَيَقولونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 9 4].
|